الأربعاء 11 كانون الثاني 2023
غيّب الموت صباح اليوم رئيس مجلس النواب الاسبق حسين الحسيني، عن عمر ناهز 86 عاماً.
ولد الحسيني في محافظة البقاع قضاء زحلة، وترأس مجلس النواب في لبنان منذ العام 1984 ولغاية 1992 بعد نهاية الحرب الأهلية اللبنانية وكانت له مساهمة كبيرة بالتوصل إلى اتفاق الطائف لحل الأزمة اللبنانية. ولقب نتيجة ذلك بعراب الطائف.
الراحل حاصل على دبلوم في إدارة الأعمال من جامعة القاهرة. ما بين 1956-1963 عمل مديراً لإدارة شركة توليد وتوزيع الطاقة الكهربائية في بعلبك. من عام 1957 إلى 1998 كان رئيسا لبلدية شمسطار. شارك في تأسيس "حركة أمل" في العام 1973، والتي كانت تعرف بذلك الوقت بـ"حركة المحرومين"، وتولى رئاستها ما بين 1978 - 1980 بعد اختفاء الإمام موسى الصدر. كما شارك في تأسيس الهيئة الوطنية للمحافظة على الجنوب عام 1977، وانتخب عضواً في لجنتي المالية والأشغال. انتخب عضواً في مجلس النواب اللبناني منذ عام 1972 وبكل الدورات التي تلت، حتى تاريخ استقالته من البرلمان في 12 أب 2008.
لم يكن الراحل الكبير السيد حسين الحسيني قامة وطنية وسياسية فحسب، وإنما كان أيضا عراب إتفاق الطائف وحافظ أسراره ومحاضره.
دافع عن بنود وثيقة الوفاق الوطني، وجابه الذين حاولوا الخروج عليها، ولم يقبل أن يكون شاهد زور على كل الإجراءات التي كانت تؤول إلى الطعن بالطائف، فتخلى عن مقعده النيابي، واستمسك بالعروة الوطنية وبوثيقة الوفاق الوطني، حتى الرمق الأخير.
استقالته احتجاجا
قدم الرئيس الحسيني استقالته من مجلس النواب في 12 أب 2008. اثر اتفاق الدوحة احتجاجا على تجاوز الدستور ومحاولة تشويه الطائف وقد جاء في كلمة الاستقالة في مجلس النواب حيث تقصد ان تكون استقالته وثيقة سياسية ووطنية:
دولة الرئيس،
أيّها الزملاء الكرام،
أقول بصدق، أكثرُ يومٍ ينطبق على وضع الناس القول المأثور: "الناس من خوف الذّلّ في ذلّ".
لقد بدأنا بالكلام عن شخص الإمام السيد موسى الصدر، ولو أنّ هذا الكلام قد أتى متأخراً، فلا بدّ أن نتكلم عن نهج الإمام السيد موسى الصدر.
تعلمون أنّه منذ بيان حكومة الرئيس رياض الصلح عام 43 والتمنيات التي تضمنها البيان وحتى الآن قُيّض لنا وطن ولم يُقيّض للوطن دولة لتحمي الوطن. وانفجر الوضع عام 58 وأتى الرئيس اللواء فؤاد شهاب، وأتى ببرنامجٍ إصلاحيٍّ فعليّ لإقامة الدولة، غير أنّ التطورات الإقليمية والظروف المحلية حالت دون ذلك، فاكتفى الرئيس شهاب ببرنامجه التنموي والإداري فقط دون السياسي.
وبعد مرور ست سنوات، كانت الأكثرية الساحقة في المجلس النيابي ترغب في أن يعود اللواء فؤاد شهاب ويرشّح نفسه مجدداً لانتخابه رئيساً للجمهورية، ويومها قال الرئيس اللواء فؤاد شهاب ما حرفيته، لن أقرأ كامل الخطاب، أو كامل كتاب العزوف، كما سمّي، لكن في مقاطع منه يقول:
"وفي ضوء الخبرة التي اكتسبتها خلال ممارستي الممارسات المتعددة، وخاصةً في رئاسة الدولة، وانطلاقاً من تطور الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ومن خلال نظرتي الخاصة إلى معنى السلطة وإلى المهمات التي يجب أن تؤدّيها الدولة والهالة التي يجب أن تلازمها، ونظراً إلى ما يمكن أن يتلاءم وأسلوبي الخاص في العمل وإلى ما يأمله ويتطلبه اللبنانيّون من رجلٍ خبر الحكم، يبدو لي الموقف على الوجه الآتي:
"إنّ المؤسسات السياسية اللبنانية والأصول التقليدية المتّبعة في العمل السياسي لم تعد في اعتقادي تشكّل أداةً صالحةً للنهوض بلبنان وفقاً لما تفرضه السبعينات في جميع الميادين، ذلك بأنّ مؤسساتنا التي تجاوزتها الأنظمة الحديثة في كثيرٍ من النواحي سعياً وراء فاعلية الحكم، وقوانيننا الانتخابية التي فرضتها أحداثٌ عابرة ومؤقتة، ونظامنا الاقتصادي الذي يسهّل سوء تطبيقه قيام الاحتكارات، كلّ ذلك لا يفسح في المجال للقيام بعملٍ جدّي على هذا الصعيد الوطني".
"إنّ الغاية من هذا العمل الجدّي هي الوصول إلى تركيز ديمقراطية برلمانية أصيلة صحيحة ومستقرة، وإلى إلغاء الاحتكارات ليتوفر العيش الكريم والحياة الفضلى للبنانيّين في إطار نظامٍ اقتصاديٍّ حرّ سليم يتيح سبل العمل وتكافؤ الفرص للمواطنين، بحيث تتأمّن للجميع الإفادة من عطاء الديمقراطية الاقتصادية والاجتماعية الحقّ".
ومررنا بظروفٍ صعبة، واندلعت الحرب مجدّداً عام 1975، وكأنّ الرئيس فؤاد شهاب قد تنبّأ بما حصل أو بما سيحصل.
وبتاريخ 11/5/1977، كان الجواب الأول على كتاب اللواء الرئيس فؤاد شهاب. أتى الجواب الأول بعد هدنةٍ خلال حرب السنتين، واسمحوا لي أن أقرأ الوثيقة التي أُعلنت برئاسة الإمام السيد موسى الصدر وهي ليست طويلة:
"بناءً على قرار الهيئتين الشرعية والتنفيذية (أي الهيئتين في المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى) المتّخذ في الاجتماع السابع عشر بتاريخ 7/3/77 بإبقاء جلستهما المشتركة مفتوحة، تابعت الهيئتان المذكورتان الجلسة في اجتماعٍ عُقد في الساعة الثانية عشر ظهر يوم الأربعاء بتاريخ 11/5/1977 في مركز المجلس في الحازمية، برئاسة سماحة الإمام السيد موسى الصدر، وحضور: النائب الأول للرئيس سماحة الشيخ محمد مهدي شمس الدين والنائب الثاني للرئيس الدكتور عدنان حيدر، والأعضاء في الهيئة الشرعية أصحاب الفضيلة: الشيخ عبد الأمير قبلان، الشيخ موسى شرارة، السيد محمد علي الأمين، الشيخ محمد نجيب سويدان، والأعضاء في الهيئة التنفيذية الأساتذة: عبد اللطيف الزين، محمود عمّار، حسين الحسيني، سميح فياض، محمد علي صادق، زيد الزين، ومعين عسيران. وحضر الاجتماع من الوزراء والنواب السابقين: الدكتور سليم حيدر، والأساتذة محمد صفي الدين، علي بزي، جعفر شرف الدين، محمد الفضل، سعيد فواز، عبد الكريم الزين، وعبد المجيد الزين". والتواقيع.
طبعاً، هذه الورقة هي الجواب الأول على رسالة اللواء فؤاد شهاب، حيث كان لبنان يفتقر إلى الرؤية حول الهوية الوطنية والهوية العربية وتحديد النظام السياسي، فكانت هذه أول ورقة من جهة إسلامية تعلن ما يلي:
"بعد هذه الملاحظات العامّة، التي تعتبرها الطائفة الإسلامية الشيعية أساسية في بناء لبنان الجديد، يهمّها أن تؤكّد على ما يلي:
أولاً – في هوية لبنان ونظامه: تجدّد الطائفة الإسلامية الشيعية إيمانها بلبنان الواحد الموحّد: وطناً نهائياً بحدوده الحاضرة سيداً حرّاً مستقلاً، عربياً في محيطه وواقعه ومصيره، يلتزم التزاماً كلّيّاً بالقضايا العربية المصيرية، وفي طليعتها قضية فلسطين؛ منفتحاً على العالم بأسره، يلتزم بقضية الإنسان لأنّها من صلب رسالته الحضارية. جمهورية ديمقراطية برلمانية، تقوم على احترام الحريات العامّة وفي طليعتها حرية الرأي والمعتقد، وعلى مبدأ فصل السلطات، وعلى العدالة الاجتماعية والمساواة في الحقوق والواجبات بين جميع المواطنين، في نظامٍ اقتصاديٍّ حرّ مبرمج، ووفق تخطيطٍ علميٍّ إنمائيٍّ شامل لمختلف الطاقات والاحتياجات والنشاطات في جميع المضامير: بلد الكرامة الإنسانية والطموح الحضاري."
"وتشدّد الطائفة الإسلامية الشيعية على أنّ هذه الأوصاف ليست كلّيّاً أو جزئياً، ولا يمكن أن تكون موضوع مساومة أو تسوية، لأنّها ليست عارضة أو طارئة، وليست مطلباً من مطالب فئة دون أخرى، بل هي منبثقة من جوهر وجود لبنان، ومن صميم كيانه، ومن رسالته التاريخية، ومن آفاق مصيره، ومن طموح أبنائه وتطلعاتهم المستقبلية".
وتضمّنت الورقة " في ما لا يمكن القبول به":
1-تقسيم لبنان: إنّ الطائفة ترفض رفضاً باتّاً أيّة صورة من صوّر التقسيم، تحت ستار لامركزية سياسية، أيّة كانت هيكليتها. وهي على العكس، ترحّب بأيّة صيغة للامركزية الإدارية التي من شأنها تعزيز الحكم المسؤول في المناطق واختصار المعاملات الروتينية وتقريب القضاء من المتقاضين وإشراك الهيئات الشعبية والبلدية ومجالس المحافظات في إدارة الشؤون المحلية.
2-تشويه وجه لبنان الحضاري بتحجيم دوريه العربي والدولي، أو بقطعه عن المدّ الحضاري الإنساني، أو بجرّه إلى أيّ محورٍ سياسيٍّ عربيٍّ أو دوليّ بحيث يتقوقع ويتقزّم أو يتحيّز ويفقد طابعه المميّز.
3-تحجير الصيغة اللبنانية بحيث يبقى عامل القلق على المصير عند البعض ذريعة للمحافظة على امتيازاتٍ فئوية، بينما يبقى عامل الغبن عند البعض الآخر باباً للنزاع، وبحيث يبقى العاملان معاً ثغرتين في الكيان تنفذ منهما المؤامرات على سلامة البلد واستقلاله وسيادته ووحدة أرضه وشعبه.
4-أيّة تسوية بين الفرقاء على حساب الوطن، ولو مؤقتة - وقد علّمتنا التجارب أنّه لا يدوم إلاّ المؤقت - بحيث يسفر الحوار المرتقب عن رغبةٍ صادقةٍ مدعومةٍ بتخطيطٍ شاملٍ لتحديث الدولة في جميع مرافقها، تحديثاً جذرياً، ولحلّ المشاكل الاجتماعية التي تتفاقم، ولإيجاد تكافؤ الفرص للجميع على أساس الكفاية والنشاط والإخلاص، في ضوء رؤيةٍ مستقبليةٍ مستمرة الاستكشاف، مستمرة التركيز والتحسين.
هذه النقاط الأربع، يهمّ الطائفة الإسلامية الشيعية أن تشدّد على رفضها جملةً وتفصيلاً لأنّها شبه قنابل موقوتة، لا بدّ من أن تؤدّي إلى الانفجار عند أوّل فرصة تسنح".
طبعاً، وفي الإصلاح السياسي، نطالب بـ:
أ- إلغاء الطائفية السياسية في جميع مرافق الحياة العامّة؛
ب- اعتماد الاستفتاء الشعبي في القضايا المصيرية؛
ج- تشكيل المجلس الاقتصادي الاجتماعي أو مجلس الشيوخ أو كليهما؛
د- تعديل قانون الانتخابات النيابية على أساس جعل لبنان كلّه دائرة انتخابية واحدة واعتماد البطاقة الانتخابية وإجراء الانتخابات في يومٍ واحد".
بحيث يصبح النائب فعلاً نائب الأمّة جمعاء.
وقد استدرك الإمام السيد موسى الصدر، بعد طباعة هذه الورقة التي كانت أساس من أسس أوراق الوفاق، فوضع بخط يده عبارة: "وتمهيداً لهذه الغاية وإلى أن تشمل لبنان بأسره أحزاب وطنية يمكن اعتماد الدائرة الموسّعة بحيث لا تقلّ عن المحافظات".
كان هذا أول جواب على كتاب العزوف، والجواب الثاني كان بعد الانسحاب الإسرائيلي، حيث استُكملت الرؤية لدى المسلمين جميعاً، فصدرت ثوابت الموقف الإسلامي من دار الفتوى والتي هي تقريباً نفس مضمون ورقة العمل الإسلامية الشيعية، بحيث ورد:
"لبنان وطن نهائي بحدوده الحاضرة المعترف بها دولياً، سيّداً حرّاً مستقلاً، عربياً في انتمائه وواقعه، منفتحاً على العالم، وهو لجميع أبنائه، له عليهم واجب الولاء الكامل ولهم عليه حقّ الرعاية الكاملة والمساواة".
وقد وقّع ثوابت الموقف الإسلامي مفتي الجمهورية اللبنانيّة الشيخ حسن خالد، نائب رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى الشيخ محمد مهدي شمس الدين، رئيس المحاكم الدرزية المذهبية الشيخ حليم تقي الدين، عادل عسيران، صائب سلام، سليم الحص، حسين الحسيني، سامي يونس.
واستمر العمل في هذا النهج إلى أن تبلوّرت المبادئ الأساسية اللبنانية في إطار مجلس النواب وأنّجزت الورقة في 10 آذار 1985 وفيها:
"أولاً: ميثاق العيش المشترك ميثاقٌ مقدّسٌ، لا شرعية لأيّ سلطةٍ تناقضه، وكلّ عملٍ يرمي إلى نقضه يشكّل خيانة عظمى."
"ثانياً: مسلّمات العيش المشترك في المجتمع اللبناني الواحد أربعة، تشكّل معنى لبنان، أوّلها الحرية، وثانيها المساواة، وثالثها العيش الكريم، ورابعها التكافل والتضامن، وذلك في إطار الدولة الواحدة وبالولاء التام للوطن الواحد".
وقد تضمّنت هذه الورقة فعلاً الاستراتيجية الحقيقية التي سنأتي على ذكرها فيما بعد، وهي موقف لبنان من إسرائيل:
"إنّ موقف لبنان من إسرائيل ينطلق من الموقف العربيّ العامّ، ومن حقوق الشعب الفلسطيني الشقيق، وقبل ذلك، ينطلق من حقيقة أطماع إسرائيل المباشرة بأرض لبنان ومياهه، ومن مخططاتها لضرب الصيغة اللبنانية القائمة على التسامح والعيش المشترك، وهي صيغةٌ تناقض طبيعة الكيان الإسرائيلي المبني على العنصرية الدينيّة، لذلك، فإنّ الموقف اللبناني، يفرض تحرير الأرض اللبنانية من الاحتلال الإسرائيلي، ويتنافى مع أيّ شكلٍ من أشكال التعاون أو التعامل مع العدو الإسرائيلي المحتل".
وهنا لا يفوتني القول بأنّ المقاومة قد تأسست بعد اجتياح إسرائيل للبنان في 16 – 17 أيلول 1972 وكان الإمام الصدر هو المؤسّس الأول، وقد شارك في عمليات التأسيس فيما بعد عدد كبير من الشخصيات اللبنانية أذكر منهم الزميل العزيز غسان تويني. وقد نصّت هذه الورقة التي استحوذت على تأييد جميع كتل المجلس عام 1985، جميع الكتل، وعلى رأسهم الرئيس رشيد كرامي، الرئيس كميل شمعون، الرئيس صائب سلام، والرئيس عادل عسيران، جميع الشخصيات التي كان يضمّها المجلس والنواب، جميعاً وافقوا على أنّ: مقاومة الاحتلال حقٌّ لكلّ لبنانيّ وواجبٌ عليه، يقوم به بشتّى الأشكال المؤدّية إلى تحرير الأرض والإنسان، وهي دفاعٌ عن الحريّة الراسخة في تراث اللبنانيّين، وممارسةٌ لتلك الحريّة، أمّا التعاون مع الاحتلال فذلٌّ وخيانة للوطن، فلا كرامة مع الاحتلال ولا حريّة من دون تحرير".
وطبعاً قلنا بالدولة المدنية، من دون أن نطيل. هذه الورقة كان يجب أن تُعلن بعد 10 / 3 / 1985 ويومها كما تذكرون حصلت الانتفاضة في 12 آذار 1985، فتوقف العمل بهذه الورقة مؤقتاً.
طبعاً كان الوفد اللبناني في زيارة الفاتيكان قد استبدل هذه الورقة بالمذكرة التي رُفعت إلى قداسة البابا يوحنا بولس الثاني، وهنا لا بدّ أن أذكّر بالأجواء حيث، من على منبر رئاسة هذا المجلس، وبعد تجديد انتخابي رئيساً للمجلس، استهليت كلامي بالتالي:
"أيّها الزملاء، إنّ أخطر ما يواجهه وطنٌ من الأوطان، هو أن يصبح، في نظر أهله، منطقةً من المناطق. إنّ أخطر ما يواجهه شعبٌ من الشعوب، هو أن يصبح، في علاقات أبنائه، تجمّعاً من التجمّعات. إنّ أخطر ما يواجهه دينٌ من الأديان، هو أن يصبح، في إيمان أتباعه، طائفةً من الطوائف. إنّ أخطر ما تبلغه حربٌ من الحروب، هو أن تصبح ممارسة أطرافها حرباً مستديمةً بلا وعد. إنّ تأملاً بسيطاً يكفي لأن ندرك حقيقة هذه الأخطار بما هي أهدافٌ ثابتةٌ لعدوٍّ واحد".
استُكملت الأمور بكثير من الأوراق إلى أن وصلنا إلى الورقة مع غبطة البطريرك صفير والتي تضمّنت – وهذه هي أول مرة أكشف عنها، والبطريرك صفير كشف عن جزءٍ منها في مذكّراته، وأهم ما في هذه الورقة أنّها تضمّنت الاستراتيجية في الموقف من العلاقات اللبنانية – السورية، ومن الموقف من إسرائيل بحيث تضمّنت التالي:
"في الموقف من إسرائيل: إنّ موقف لبنان من إسرائيل ينطلق من الموقف العربي العام، ومن حقوق الشعب الفلسطيني الشقيق، وقبل ذلك ينطلق من وعي الشعب اللبناني أطماع إسرائيل المباشرة بأرض لبنان ومياهه، ومخططاتها لضرب الصيغة اللبنانية القائمة على التسامح والعيش المشترك، وهي صيغةٌ تناقض طبيعة الكيان الإسرائيلي المبني على العنصرية الدينية. لذلك فإنّ الموقف اللبناني يفرض تحرير الأراضي اللبنانية من الاحتلال الإسرائيلي ويتنافى مع أيّ شكلٍ من أشكال التعاون أو التعامل مع العدو الإسرائيلي المحتل، وذلك يتطلب:
أ-اتّخاذ جميع الإجراءات اللازمة لتحرير جميع الأراضي اللبنانية من الاحتلال الإسرائيلي وبسط سيادة الدولة على جميع أراضيها.
ب-التمسك بقرارات مجلس الأمن الدولي وفي مقدمتها القرار رقم 425 القاضي بإزالة الاحتلال الإسرائيلي من جميع الأراضي اللبنانية دون قيدٍ أو شرط.
ج-التمسك باتّفاقية الهدنة الموقّعة في الثالث والعشرين من آذار 1949".
كما تضمّنت هذه الورقة الكلام عن الدائرة الانتخابية فقالت:
1-بنفس التوزيع الذي ورد فيما بعد في الدستور، أي توزّع المقاعد النيابية وفقاً للقواعد التالية..
2-لبنان دائرة انتخابية واحدة
3-يضمن المرشح نسبة 10% من عدد الناخبين في القضاء الذي يختاره المرشح لكي يقبل ترشيحه في الدائرة الوطنية الواحدة.
طبعاً، هذه كانت قبل الوصول إلى الطائف، وهذه الورقة هي خلاصة اتّفاق الطائف.
بعد إقرار الإصلاحات السياسية، وهنا أؤيد ما جاء على لسان دولة رئيس المجلس لجهة موضوع مقدمة الدستور. هذه المقدمة هي الميثاق الوطني المكتوب. كان عندنا الميثاق الوطني غير المكتوب، فاستُكمل وأصبح لدينا مقدمة الميثاق الوطني المكتوب، وأصبحت المقدمة هي الميثاق. ومن مراجعة محاضر إقرار الإصلاحات الدستورية، يتبيّن لنا أنّه كان هناك إجماع على أنّه لا يمكن تفسير أيّ نصّ من نصوص الدستور إلاّ في ضوء هذه المقدمة، لأنّ هذه المقدمة هي الميثاق، هي العهد بين اللبنانيّين، ولا يمكن على الإطلاق أن تعدّل أو تبدّل أو تحوّر بأكثريات موصوفة أو غير موصوفة. هي تحتاج إلى إجماعٍ وطني، لأنّها تخصّ كلّ المواطنين وكلّ الوطن.
بعد إقرار الإصلاحات الدستورية، كنّا في 21 آب 1990، وكان البرنامج هو التالي:
المطلوب ورشة عمل حقيقية لإصدار القوانين التطبيقية للدستور والميثاق، والدستور هو الإطار، ولكنّ هذا الإطار يحتاج إلى قوانين تطبيقية:
1- قانون تنظيم دوائر رئاسة الجمهورية وتنظيم عملها؛ للآن لم يصدر!
2- قانون الانتخاب لتأمين برلمانية النظام والمراقبة والمحاسبة؛ للآن لم يصدر!
3- قانون تنظيم أعمال مجلس الوزراء كونه السلطة التنفيذية؛ للآن لم يصدر!
4- قانون تنظيم دوائر رئاسة مجلس الوزراء وعملها؛ للآن لم يصدر!
5- قانون تحقيق السلطة القضائية المستقلة تأميناً لمبدأ الفصل بين السلطات وخضوع المسؤولين والمواطنين لسيادة القانون؛ للآن لم يصدر!
6- قانون الجيش وفقاً لأحكام الدستور والميثاق الوطني؛ للآن لم يصدر!
7- قانون تنظيم الأجهزة الأمنية (مخابرات الجيش والأمن العام وأمن الدولة) وعلاقاتها بالسلطات كافة؛ للآن لم يصدر!
8- قانون التنظيم الإداري للدولة – الوزارات والإدارات وهيكلية الوزارات؛ للآن لم يصدر!
9- قانون اللامركزية الإدارية وتحديد التقسيمات الإدارية؛ للآن لم يصدر!
10- إطلاق خطة التنمية الشاملة للبلاد (وهي موجودة وغير معمول بها)، والمهم هو إشعار المواطنين على اختلاف انتماءاتهم، خصوصاً المناطقية، بأنّهم في وطنٍ واحدٍ والولاء الوطني له. والتشديد على التربية والتعليم وتحصيل المعرفة، الصحة الوقائية والعلاجية، الزراعة والإقراض الزراعي والصناعة والسياحة وغيرها من برامج التنمية لتثبيت المواطنين في مناطقهم؛
11- إعادة تنظيم وسائل الإعلام في ظلّ القانون وفي إطار الحرية المسؤولة بما يتّفق مع التوجهات الوفاقية وإنهاء حالة الحرب.
للآن لم يصدر شيء من هذا.
أي نحن لدينا وطن، وفي خضّم هذه الأحداث في المنطقة والعالم، الإبقاء على وطن ليس بالشيء القليل على الإطلاق. لكن أين نحن من كل ذلك؟
نستغرب ما حصل لنا مؤخراً ؟ حيث بتنا أمام حالةٍ دفعتنا إلى عنف السلاح والمال، وكلّ عنفٍ إكراه. ومع تفتيت السلطة السياسية لا يمكن وضع أيّ استراتيجية سياسية كانت أو اجتماعية أو اقتصادية، طالما نحن لم نقم الدولة.
هناك تعاطف للأزمات وتفارق للسلطات، ومعالجة المشاكل التي أثارها الحوار الماضي عام 2006 تفترض فهماً شاملاً لاستقراء الأحداث واقتراح الحلول والتدابير باعتبار أنّ الحدث لا يحمل معنىً واحداً، إذ نحن إزاء أحداث تاريخيّة.
الخطاب السياسي، بمجموعه، لا يرتقي إلى مستوى البناء المنطقي، ومن الطريف أن يكون هذا الخطاب مدعاة فخرٍ لأصحابه إزاء مهمات تاريخية استثنائية..
هل بُني دستورنا على خدعة؟
بالأمس القريب زار لبنان رئيس فرنسا السيد ساركوزي، وشاركنا في الاستقبال، وراقبنا وسائل الإعلام حيث قيل "الرؤساء الثلاثة" استقبلوا الرئيس الفرنسي، وكان يرافق الرئيس الفرنسي رئيس وزراء فرنسا. لماذا لم يُذكر رئيس وزراء فرنسا؟ لأنّ في فرنسا دولة ولها رئيس دولة. نحن ما زلنا، وبالرغم من النصّ الدستوري الذي يقول أنّ رئيس الدولة هو رئيس كلّ السلطات، ومع ذلك لا نزال نتعامل معه على أنّه على قدم المساواة مع رئيس المجلس ورئيس الحكومة. وهذا يدلّ على عدم وجود الدولة. وإلاّ لما كان صدر مثل هذا الخبر. وأنا أناشد رئيس المجلس ورئيس الحكومة إلى المبادرة إلى تصحيح هذا المفهوم في وسائل الإعلام، ومن دون أن يبادر غيرهما إلى تصحيح هكذا مفهوم.
أقول هذا لأصل إلى ما تمّ في الدوحة، وقد ذكرت ما تعهدنا وتعاهدنا مع الإمام موسى الصدر وأين أصبحنا الآن.
اتّفقنا في الدوحة وشكراً للمتّفقين في الدوحة وهم كانوا من أهل البيت قبلها، لأنّهم هم فريق السلطة. تسمية معارضة وتسمية موالاة هي من الأخطاء الشائعة وليست صحيحة. هناك تحالف رباعي نتج عنه حكومة متشاركة، واتّفق في الحكومة بأنّ الأربعة عندما يقرّرون، تلتزم المؤسسات بقرارهم. وعندما اختلفوا، أصبحوا معارضة وأصبحوا موالاة. ففي الدوحة، شكراً، عادوا كلّهم سلطة. الآن، هذا يستوجب الشكر بأنّهم عادوا إلى بعضهم البعض، وبالتالي، رفعوا الحواجز، وانتُخب رئيس الجمهورية الذي كان قد انتُخب من الرأي العام المحلي والعربي والعالمي قبل أن ننتخبه في هذا المجلس. انتخبناه وهو الأمل الوحيد في أن ننتقل من اللاشرعية إلى الشرعية، ذلك لأنّه لا يخفى عليكم، أيّها السادة، بأنّ مجلسنا هذا والمجلس الذي سبقه قد انتُخبا في ظلّ قانون الـ2000 المخالف للدستور والمخالف لوثيقة الوفاق الوطني. أي، بمعنى آخر، يمكن أن نصف المجلس بأنّه مجلسٌ قانونيٌّ ولكنّه يفتقر إلى الشرعية الشعبية الحقيقية. الآن، نشكر على انتخاب رئيس للجمهورية، ولكن ماذا فعلنا في الدوحة؟ بيان الحكومة ينبئنا بما حصل في الدوحة. ينبئنا بأنّه اتّفق في الدوحة على تشكيل حكومة ممنوع على أيّ وزيرٍ فيها أن يستقيل. أتساءل: هل نحن ما زلنا في نظامٍ ديمقراطيٍّ برلمانيّ حقيقةً؟ مَن يستطيع أن يقيّد إرادة وزير في أن يستقيل أو لا يستقيل؟. هذا لا يليق بحكومة تمثّل الشعب اللبناني.
الشعب اللبناني شعبٌ راقٍ حصّل ثروات هائلة من الحريات العامّة ومن الممارسة الديمقراطية ومن العيش المشترك المسيحي – الإسلامي ومن الحوار الحرّ ومن النخبة اللبنانية التي نفخر بها في الداخل وفي الخارج.
هذه النخبة المبعدة بواسطة قانون الانتخاب. ماذا نفعل؟ نأتي لنقول بحكومة تصادر حرية الوزير قبل أن تحافظ على حرية الناس.
لا أريد أن أدخل في البيان الوزاري لأنّ 48 صفحة، حقيقةً، هي فارغة من كلّ معنى، بما في ذلك هذا التراجع المخيف حول النظرة إلى القضاء. فإذا راجعنا البيان الوزاري لحكومة الرئيس السنيورة عام 2005 وقرأنا ماذا تضمّن بالنسبة إلى القضاء، نجد أنّنا تراجعنا أشواط وأشواط.
إنّني، مخلصاً، أيّها السادة، أنصح، ونصيحة لوجه الله:
إنّنا نتوهم بأنّ حليمة يمكنها أن تعيد عادتها القديمة. المهم أنّنا نتوهم بأنّنا نؤبّد وجود الطبقة السياسية ونمنع تجديدها عن طريق قانون انتخاب قال فيه الرئيس اللواء فؤاد شهاب ما قال، وقالت فيه وثيقة الوفاق الوطني ما قالت، وقال فيه الدستور ما قال، نعود الآن لنقول: لنجعلها لمرّةٍ واحدة ونقبل بالاستثناء!! أيّ استثناءٍ هذا؟
الحالة الاستثنائية هي التي تُفرض على الناس من خارج إرادتهم، هي قوة قاهرة، هي ظروف طارئة، بحسب ما تعلمناه من أساتذتنا في علم الحقوق. أمّا أن نفتعل ظروف استثنائية وأن نحتج بها، هذا لا يمكن أن نصدّقه! نصيحتي هو أنّكم يمكن أن تؤبّدوا لمرة أو لمرتين هذه الطبقة، ولكن أسفي الشديد وخوفي الكبير هو أنّكم لا تستطيعون الإبقاء على الوطن.
الوطن في خطر أكبر بكثير ممّا أنتم تعتقدون.
وهنا، لا بدّ من أن آتي إلى الخطاب السياسي الذي نتبادل فيه وسبق لي أن قلت في هذا المجلس:
المودّة أصلٌ، وهي أصل الإرادة والمحبّة، أصلهما الواحد. المودّة والكراهة فرعٌ ونسبة. ولولا المودّة ما أحبّت أمّ، ولا نطق طفلٌ، ولا أراد مريدٌ، وما كانت لغةٌ وما كان مجتمعٌ لبني البشر. إنّني أذكر هذا الأمر الذي يستشعره أيّ واحدٍ منّا، في بساطة التجربة، وأذكّر به، لأنّنا نعيش في حياتنا الاجتماعيّة ما يحملنا على نسيان هذا الأمر، بل على إنكاره، ما يحملنا على إشاعة الكراهة.
وذلك انحرافٌ، يقع عندما تضيق صدورنا بما هو غيرنا، فلا يحبّ إلاّ ذاته الفرديّة، فيكون أنانياً، أو لا يحبّ إلاّ ذاته الجماعية، فيكون طائفياً أو مذهبياً.
أيّها الزملاء،
لم أرَ في حياتي السياسيّة التي تقارب النّصف قرن، في الحرب والسّلم، في الحكم والمعارضة، تناقضاً كهذا التناقض.
لم أرَ في حياتي السياسيّة تمزيقاً للدستور كهذا التمزيق، حيث ندفع بنصّ الدستور إلى أن يكون استهزاءً بروحه.
إنّه لأمرٌ محزنٌ حقّاً أنْ يستمرّ هذا المشهد:
كأنّنا لم نتعلّم من تجارب الماضي،
كأنّنا نريد دولةً بلا مؤسّسات،
كأنّنا نريد وطناً بلا مواطنين.
وإن لم يكن الأمر كذلك، فما السبب في عجزنا، بعد كلّ هذه التجارب، عن الاتّفاق على قانون انتخابٍ صالحٍ، ووفقاً لأحكام وثيقة الوفاق الوطني والدستور؟..
ومن السهل، بل من الحقيقة أن نقول إنّها مسؤوليّة الطبقة السياسيّة. لكنّني أجد نفسي مجبراً على القول الصريح: إنّها مسؤوليّة الطبقة الماليّة المتحكّمة والطبقة الثقافيّة المعطّلة.
إنّ أغرب ما في الأمر هو أن نكون مدعوّين إلى الفرح بتعليق قيام الدولة، وإلى تقديم الشكر.
وأمام هذه الحقيقة، حقيقة أنّ السلطة قادرةٌ إذا أرادت، وحقيقة أنّها حتى الآن لا تريد، وكأنّي بنفسي أمام قول الشاعر الذي خاطب نفسه:
ما أنتِ إذ لا تصدعين فواحشاً إلاّ كراضيةٍ عنِ الفحشاءِ
وأمام هذه الحقيقة، حقيقة أنّ السلطة قادرةٌ إذا أرادت، وحقيقة أنّها حتى الآن لا تريد، أجدني مضطرّاً إلى إعلان استقالتي من عضوية هذا المجلس، عودةً منّي إلى أصحاب الثقة التي باسمها يكون عملي.
ولن يمنعني غيابي عن مركزٍ أو وجودي فيه، من القيام بواجبي الوطني الذي لن أحيد عنه.
رأيت لبنان وطناً ورأيت اللبنانيّين مواطنين، وقد عملتُ، وقد يصبح المرء عقبةً أمام ما أراد، إلاّ أنّ للفرد أن يعرف حدوده.
وشكراً.
حسين الحسيني