خالد قباني : لم يتم تطبيق اتفاق الطائف بصورة كاملة ومانفذ منه كان مجتزءاً وبصورة تخالف مضمونه وروحه. اختصرت المؤسسات وغاب دورها

اجرت مجلة الضحى حوارا مع الوزير السابق القاضي والاستاذ في الفقه الدستوري واحد صناع اتفاق الطائف الدكتور خالد قباني هذا نصها ويعيد مرصد الطائف نشرها لاهميتها الفقهية والدستورية في هذه المرحلة:

1- كنتم حاضرين بقوة في اجتماعات الطائف الطويلة، وكذلك في النتائج، وبخاصة في صياغة بنود الوثيقة التي صدرت عن الاجتماعات، كيف تنظرون اليوم إلى تجربتكم تلك، هل كانت تستحق ذلك العناء؟ هل كنتم راضين عن الوثيقة الختامية، أم مجرد تسوية أنهت سنوات الحرب الطويلة بما تيسّر من تسويات وتنازلات.

*كانت فعلاً تجربة تستحق العناء، لأنها أدت إلى:
أولاً إيقاف حرب عبثية، دامت أكثر من خمس عشرة سنة، دمرت لبنان وهجرت أهله وأنهت اقتصاده، وشكلت خطراً على وحدة لبنان وكادت تنتهي إلى تجزئته وتقسيمه لولا اتفاق الطائف الذي وضع حداً لهذه الحرب وأعاد اللبنانيين إلى بعضهم البعض.
وثانياً إحياء المؤسسات الدستورية من خلال إعادة تكوين السلطات الدستورية.إلتآم         مجلس النواب سريعاً، بعد إعلان وثيقة الوفاق الوطني، التي صوت عليها اللقاء النيابي اللبناني في الطائف، في بلدة القليعات، في لبنان، في 5 تشرين الثاني وصادق على هذه الاتفاقية، وفي الجلسة نفسها تم انتخاب رئيس للجمهورية اللبنانية، ثم بعد ذلك تم تشكيل حكومة جديدة ترأسها الرئيس الحص، واختصرت ولاية مجلس النواب، بعد أن استمر في ممارسة أعماله لمدة أكثر من عشرين سنة، أي منذ سنة 1972، لكي يتسنى للشعب انتخاب مجلس نواب جديد، اكتمل بانتخابه عقد المؤسسات الدستورية، وذلك سنة 1992.
وثالثاً البدء بعملية البناء والإعمار التي أعادت إعمار لبنان الذي هدمته الحرب، وأعادت هذه العملية لبنان إلى خارطة العالم، واستعاد دوره الاقتصادي والثقافي والسياسي والانساني.
لم تكن الوثيقة الختامية مجرد تسوية، انهت سنوات الحرب، ولكنها أدخلت تعديلات أساسية وجوهرية على النظام السياسي في لبنان، وعالجت بل حلّت مشاكل ونزاعات رافقت إعلان دولة لبنان الكبير، واستمرت طيلة العهود التي تلت، وإن كان الميثاق الوطني سنة 1943 قد شكل محطة مفصلية، وأساسية في بناء دولة الاستقلال، ولكنه لم ينهِ أزمات لبنان، فجاء اتفاق الطائف محاولاً من خلال التعديلات الدستورية وضع حد للأزمات السياسية، كمسألة الهوية العربية أي عروبة لبنان، والهوية الوطنية، اي المسألة الطائفية، ومسألة المشاركة في الحكم، أي ما كان يعرف بمعادلة الخوف والغبن، ومسألة العدالة الاجتماعية، أي مسألة الإنماء المتوازن واللامركزية الإدارية الموسعة. أما السؤال عما إذا كان الطائف قد نجح في حل هذه المشاكل التاريخية وأزمة الثقة بين اللبنانيين التي أثرت في بناء الدولة واستقرار البلاد، فهذا شأن آخر.
أقر الطائف مجموعة من القواعد والمبادئ الأساسية في الحكم وانتظام عمل السلطات، تؤمن فرصاً لبناء الوطن والدولة وتشكل نموذجاً للعيش المشترك. وأهمية هذه القواعد والمبادئ أنها باتت جزءاً من الدستور، ومن مقدمته، بحيث إذا ما طُبِقت بحسن نية، وهذا هو المطلوب، لكانت كفيلة برأينا، بتحويل لبنان إلى نموذج حضاري للعيش المشترك الاسلامي- المسيحي ومقتضياته.
لم يتم تطبيق اتفاق الطائف بصورة كاملة، وما نفذ منه كان مجتزءاً وبصورة تخالف مضمونه وروحه. اختصرت المؤسسات وغاب دورها، ودخلت البلاد في صراع من نوع آخر، صراع على النفوذ واقتسام الحصص والمغانم، وتوزعت الطوائف في ما بينها السلطات والمؤسسات، وزادت حدة المشاعر الطائفية والمذهبية، ووصلت إلى أوجّها، وادعت الكتل والأحزاب السياسية تمثيل الطوائف في الحكم، والدفاع عن حقوقها، خلافاً لأحكام الدستور، بما يؤمن غطاءً سياسياً لها، ويحصنها من كل مسؤولية أو محاسبة في ممارسة شؤون الحكم، وبما يخرج نظامنا السياسي الديمقراطي البرلماني عن طبيعته وجوهره، وتحكمت موازين القوى الداخلية بإدارة الحكم، نتيجة الصراعات الاقليمية والدولية الضاغطة، وما تفرضه هذه الموازين من قواعد في التعامل وفي ممارسة السلطة، بعيداً عن أحكام الدستور، بل وخروجاً عليها.
لم تكن الحياة السياسية والدستورية في لبنان، بدءاً من إقرار اتفاق الطائف، وتحويل الاصلاحات السياسية التي تضمنها إلى مواد في الدستور، ترجمة صادقة لأحكام الدستور، ولما احتواه من أسس ومبادئ وقواعد، كما يقتضي أن تكون، وباعتبار هذا الدستور، وخاصة ما جاء في مقدمته، معبراً عن أماني وطموحات وتوجهات الشعب اللبناني وخياراته الأساسية وتطلعاته إلى حياة آمنة ومستقرة، وبناء دولة ديمقراطية، قوامها الحرية والمساواة والعدالة، بل اتجهت الحياة السياسية والدستورية، اتجاهات ومسارات أخرجت الدستور، بما هو نظام حياة وخارطة طريق، عن مساره الطبيعي الصحيح، ونقضت أحكامه، وابتعدت عن كل ما يجعل الدولة دولة قانون ومؤسسات، سواء في ما يتعلق بتشكيل الحكومات، أو في ماخص المسألة الطائفية أو المشاركة في الحكم أو قانون الانتخاب الذي يعتبر حجر الزاوية في كل إصلاح سياسي، أو في ما يرتبط بصلاحيات رئيس الجمهورية، بما كان له الأثر الكبير على عدم استقرار الحياة السياسية  والدستورية في البلاد.

2- من جهة دستورية، هل بدّلت وثيقة الطائف من طبيعة النظام السياسي اللبناني، أم مجرد إصلاحات من داخل النظام؟

*لم تبدل وثيقة الطائفمن طبيعة النظام السياسي اللبناني، وهي ليست مجرد إصلاحات من داخل النظام، بل هي إصلاحات في صلب النظام. بقي النظام السياسي نظاماً في جوهره وطبيعته نظاماً برلمانياً في مبادئه وأركانه الأساسية والجوهرية، ولكن الاصلاحات نصت بصورة صريحة وواضحة عن طبيعة النظام السياسي، فجاء في

 مقدمة الدستور أن لبنان هو جمهورية ديموقراطية برلمانية، تقوم على احترام الحريات العامة وفي طليعتها حرية الرأي والمعتقد، وعلى العدالة الاجتماعية والمساواة في الحقوق والواجبات بين جميع المواطنين دون تمايز أو تفضيل، اي أنها حسمت بنص واضح وصريح طبيعة النظام السياسي، بعد أن كان مزيجاً من النظام الرئاسي والبرلماني، نظراً إلى الصلاحيات الواسعة التي كان يتمتع بها رئيس الجمهورية قبل التعديلات الدستورية التي أدخلها اتفاق الطائف في صلب الدستور، وجعل رئيس الجمهورية في موقع سامٍ بالنسبة للسلطات الدستورية، وصمام أمان للنظام والحكم في النزاعات والصراعات السياسية الداخلية، بحيث لا يكون فريقاً في هذا الصراع، في ظل نظام برلماني، بالغ التعقيدوالصعوبة،يقوم على المنافسة الحادة بين قوى سياسيةتتنافس ديموقراطياً لبلوغ السلطة، مما جعله يلعب دور المرجع والحكم في هذا الصراع،  الحافظ للكيان والساهر على 


احترام الدستور والملتزم بأحكامه وعلى أمن البلاد ووحدتها وسيادتها واستقلالها.
لم يعد رئيس الجمهورية جزءاً من السلطة التنفيذية، يشارك في اتخاذ القرارات، أسوة بأعضاء الحكومة، شأنه شأن أي وزير في الحكومة، بل بات يلعب دور الرقيب والموجه والمصوب لعمل مجلس الوزراء،  قبل اتخاذ القرار، والسلطة المضادة، Contrepouvoir،  بعد اتخاذ القرار، ليعيده إلى مصدره، في حال مخالفته القانون أو الدستور، أو عدم توافقه مع المصلحة العامة، بحكم دوره الوازن والحافظ للدستور، والساهر على المصالح العامة وحقوق اللبنانيين وحرياتهم، وهو يلعب الدور نفسه، وبقوة أكبر في ما يخص القوانين التي يقرها مجلس النواب، بحيث يعيد القوانين المخالفة للدستور، دون أن تمهر بتوقيعه، ويرفض تنفيذها، ولذلك فقد ربط الدستور كل أعمال الدولة، التشريعية والتنفيذية بموافقة رئيس الجمهورية، بحيث لا تكون نافذة الا بعد صدورها بمرسوم من رئيس الدولة، مما يعطي رئيس الجمهورية اشرافاً كاملاً على كل أعمال الدولة بل سلطة فاعلة وموجهة تدحض كل قول بفخرية أو شرفية هذا المنصب. للأسف لم يفهم موقع ودور رئيس الجمهورية وأهميته على حقيقته، أردنا تراكم كم  من الصلاحيات وأغفلنا المضمون.
لا تكمن مشكلة الحكم في لبنان في النصوص، سواء نتيجة نقص فيها او سوء توزيع للصلاحيات، بل تكمن في طريقة اداء الحكم وممارسة السلطة وفهم طبيعة النظام السياسي المعتمد في الدستور.
ليست المسألة مسألة صلاحيات، سواء زيادة او نقصاناً. فصلاحيات رئيس الجمهورية، على اتساعها، في دستور ماقبل الطائف، لم تسعفه ولم تمكنه من تجنب الأزمات أو احتوائها أو الحؤول دون تفجر الأوضاع في لبنان. ولا يعني ذلك أن صلاحيات رئيس الجمهورية لا تحتاج إلى تفعيل أو تعديل من أجل فاعلية دوره المطلوب، وربما من أولويات التعديل، إعطاء رئيس الجمهورية حق حل مجلس النواب، لكي يلعب دور الحكم بين أكثرية حاكمة وأقلية معارضة، إذا ما احتدم الصراع بين الفريقين إلى حد شل عمل المؤسسات الدستورية والمرافق العامة، أو شكل خطراً على الوئام الوطني والعيش المشترك، كما حصل مراراً في لبنان، ولا يزال يحصل، وإذا فقد مبدأ التعاون بين السلطتين التشريعية والتنفيذية فعاليته، فيحتكم رئيس الجمهورية إلى صاحب السيادة، إلى الشعب، وهو الحكم الأخير، ليحكم في الخلاف ويحدد خياراته. المقصود أن المعالجة تتجاوز مسألة الصلاحيات ، كماً أو حجماً، وإن المسألة لا تعالج من خلال عنوان استعادة صلاحيات مفقودة أو منزوعة، لأن ذلك يجعلنا ندور في حلقة مفرغة. المسألة بجوهرها أعمق بكثير. المسألة هي كيف نجعل رئاسة الجمهورية صمام أمان للنظام وللاستقرار، وكيف نعلي شأن موقع رئيس الجمهورية ونجعله فعلاً لا قولاً حكماً فاعلاً في الصراع السياسي. ليست المسألة مسألة كم ولكنها مسألة نوع وكيفية. في كل مرة تصرف فيها رئيس الجمهورية كفريق في الصراع، أو وضعته الظروف أو الاحداث، أو أريد له ان يكون في هذا الموقع، كانت النتيجة تفجير الأوضاع في لبنان وإغراقه في الفتنة وفي حمأة صراعات طائفية ونزاعات وحروب اهلية مدمرة. كما يستمر عليه الوضع في لبنان الآن.

3- هل توزع السلطة الذي شهدناه منذ سنة 1991، وما فيه من فوضى وبوليغارشية، حسب تعبير المرحوم د. المجذوب، هو نتيجة دقيقة لوثيقة الطائف، أو نتاج ممارسة معينة فرضت نفسها؟
*ليس في اتفاق الطائف، أو في الدستور اللبناني، ما يمكن تسميته "توزع للسلطة" أنتج فوضى عارمة، لأن ما جاء في اتفاق الطائف وما في الدستور، يرسي نظاماً سياسياً معروفاً واضح المعالم والمبادئ، ومعتمداً في الأنظمة السياسية التقليدية، مع خصوصيات تميز كل نظام عن مثيله، تعود إلى التركيبة الاجتماعية، دون أن تخل بجوهره أو بأركانه، هو النظام البرلماني القائم على مبدأ الفصل بين السلطات وتعاونها وتوازنها، والذي يعتبر فيه البرلمان السلطة الأم والذي يمثل الإرادة الشعبية، وهو يتولى السلطة التشريعية، والذي يبنى على انتخابات حرة ونزيهة وديموقراطية، وحكومة تتولى السلطة التنفيذية، وتكون مسؤولة أمام البرلمان، وتستمر باستمرار ثقة البرلمان بها، ورئيس جمهورية، يكون رئيساً للدولة ورمزاً لوحدة الوطن، وتميز عن النظام البرلماني الأم، لخصوصية البنية الاجتماعية الطائفيةفي لبنان، بحيث لا يكون رئيس دولة يتولى ولا يحكم كملكة بريطانيا، بل أناط به صلاحيات دستورية فعلية تجعله رئيس دولة ومرجعاً وحكماً في الصراع السياسي الداخلي وممسكاً بقيادة الدولة وليس مجرد رمز على غرار الأنظمة البرلمانية التقليدية.
اما الفوضى في الحكم التي يلفت إليها السؤال، فهي نتيجة عدم احترام الدستور، والخروج على أحكامه، ومحاولة كل فريق الهيمنة على السلطة، واحتكارها ووضع يده على مقدرات الدولة ومرافقها ومحاولة استتباعها، والممارسة السياسية التي تخرج عن أصول النظام الديموقراطي البرلماني، وعدم الاحتكام في الصراع السياسي إلى أحكام الدستور، واللجوء إلى موازين القوى في حسم الخلافات والنزاعات السياسية، بل الاستعانة بالخارج، وهذا أسوأ ما خرجت به ممارسة الحكم، منذ إعلان دولة لبنان الكبير، والذي حاول الطائف أن يولي صلاحية حماية النظام السياسي الى رئيس الجمهورية، بكونه المرجع والحكم في هذا الصراع، وليس الاستقواءبالخارج، كما درج عليه اللبنانيون في ممارسة الحكم في لبنان، وفي فض نزاعاتهم.
العيش المشترك في لبنان هو الحافظ للنظام والحامي لقيم الحرية والاستقلال والسيادة، لم يعد العيش المشترك مجرد فكرة أو قدراً محتوماً فرضته الجغرافيا ونسج خيوطه التاريخ، ولكنه بات خياراً حراً للبنانيين، بحيث تحول إلى صيغة مؤسساتية ودستورية. فالتداخل الجغرافي بين المناطق والبلدات، والاختلاط السكاني، والتشابك الاقتصادي ونمو المصالح المشتركة، بل الحياة المشتركة، والترابط العائلي والأسري، والغنى والتنوع في الثقافات والعادات والتقاليد وأنماط العيش المشترك، جعل صيغة العيش المشترك أكثر تجذراً وأصالة وعمقاً بحيث باتت صيغة أمانٍ وأمن وضمانة حقيقية للحرية والسيادة والاستقلال، وحمت لبنان من التجزئة ومحاولة الهروب إلى الفدرالية، طلباً للأمان والاستقرار، ونتيجتها الوقوع تحت الوصاية والحماية الخارجية، وبالتالي، فقدان الاستقلال والسيادة والقرار الوطني الحر، والدخول في حروب أهلية لا نهاية لها.
هذا الثابت، العيش المشترك الإسلامي المسيحي، هو ما كرسته وثيقة الوفاق الوطني، بعد حرب مدمرة، دامت أكثر من خمسة عشر عاماً، دمّرت كل شيء، باستثناء هذه الصيغة الراسخة، صيغة العيش المشترك.
وقد جاءت الإصلاحات لتعيد النظر في تنظيم السلطات العامة وصلاحياتها، بما يحقق التوازن فيما بينها، دون أن تمس صيغة العيش المشترك، أو تمس حقوق الطوائف في حرياتها وممارسة شعائرها وعقائدها الدينية، وحقوقها في المشاركة في الحكم. وقد بنيت هذه الإصلاحات على أساس ثلاثة مبادئ أو مرتكزات لبناء الدولة:
- مبدأ وحدة الدولة وصون العيش المشترك
- مبدأ المشاركة في الحكم، حيث لا تسلط ولا تفرد في الحكم ولاهيمنة ولا غلبة.
- مبدأ إلغاء الطائفية السياسية بصورة تدريجية وإنشاء مجلس الشيوخ.

4- ما من أحد يملك، أو يقول الحقيقة كاملة، بخصوص المداولات التي تناولت مسألة استحداث مجلس للشيوخ، وهل كان هناك قرارات في الموضوع، أو مجرد مداولات؟

*كان وما يزال استحداث مجلس للشيوخ أمراً يحظى بتوافق اللبنانيين، وهو أحد الاصلاحات الأساسية التي نص عليها اتفاق الطائف، مقابل المبدأ الذي أقره هذا الاتفاق وهو مبدأ إلغاء الطائفية السياسية الذي أصبح جزءاً من   مقدمة الدستور، ولم يكن موضع خلاف ولا جدال، بل جاء تحصيناً لمبدأ إلغاء الطائفية السياسية. ولذلك جاء مبدأ إلغاء الطائفية السياسية مقترناً حكماً بإنشاء مجلس للشيوخ، بحيث يشكل صمام أمان للعيش المشترك، وطمأنة حقيقية للمخاوف والهواجس التي يمكن أن يثيرها الشروع في إلغاء الطائفية السياسية، وسياجاً للوفاق الوطني، وضماناً لمشاركة الطوائف في تقرير مصير البلاد ومستقبلها، فنصت المادة 22 من الدستور:" مع انتخاب اول مجلس نواب على أساس وطني يستحدث مجلس للشيوخ تتمثل فيه جميع العائلات الروحية وتحصر صلاحياته في القضايا المصيرية".
وليس المقصود أو المطلوب أن يتحول مجلس الشيوخ إلى مجلس تشريعي، بل المطلوب أن يشكل صمام أمان بالنسبة لأية جهة تتردد في السير في طريق إلغاء الطائفية السياسية وتخشى على نفسها من الإلغاء أو التهميش أو فقدان الموقع والدور، فيشكل هذا المجلس دائرة أمان، إلى أن يحين الوقت الذي تهدأ فيه النفوس وتطمئن فيه القلوب وتحل فيهأجواء الثقة بين اللبنانيين محل أجواء الشك والريبة والخوف، ويشعر فيه المواطن بالانتماء فعلاً إلى وطن ودولة.
إن المؤمل من إنشاء هذا المجلس هو تعزيز الوحدة الوطنية، وهو قادر ومؤهل للقيام بهذا الدور، إذا تأمنت المناخات الملائمة، 


لأنه ينقل الحوار حول قضايانا الوطنية إلى مؤسسة دستورية رصينة  وحكيمة، تستطيع أن تتحول إلى مؤسسة حوار وطني، ترقى بالمناقشات إلى المستوى الفكري والحضاري، والتي تساهم في طمأنة النفوس وإغناء الحياة السياسيةوالوطنية بالأفكار والقيم التي تعزز الوحدة الوطنية وتصونها، بعيداً عن المزايدات وروح المنافسة السلبية حول المصالح والمنافع الفئوية، والنزاعات السياسية والعقائدية التي تضع الأحزاب والقوى السياسية في مواجهة بعضها البعض وتهدد الاستقرار في البلاد، فضلاً عن أنه بوسع هذا المجلس أن يضع حداً للتجاذبات السياسية حول قضايا المصير ويحد من التطرف أو التوجه بالبلاد إلى تبني مواقف بعيدة عن روح التضامن والتكافل الوطني، ولكي تشعر الطوائف بالاطمئنان إلى وجودها وحضورها الفاعل في الحياة السياسية ومشاركتها في القرار السياسي والقرارات المستقبلية والمصيرية، والحؤول دون جر البلاد إلى مواقف قد تهدد أسس العيش المشترك والوفاق الوطني ووحدة الدولة، وبحيث يشكل مجلس الشيوخ صمام أمان للنظام وللحياة المشتركة بين اللبنانيين.

5- ما الثغرات التي أبرزتها ممارسة الطائف في ثلاثين سنة، وهل بالإمكان حصول طائف 2 جديد من دون تهديد مرتكزات طائف 1 ؟

*لاشك أن الممارسة السيئة للإصلاحات التي جاء بها اتفاق الطائف قد انتجت ثغرات كثيرة وسلبية في الحياة السياسية، فاتفاق الطائف لم يطبق، وما طبق منه كان مجتزءاً ومغايراً لنصه وروحه، والسمة البارزة في هذه الثغرات هو نزوع السلطة السياسية إلى التحكم بالسلطة وعدم احترام أحكام الدستور ومحاولة الهيمنة على الحكم ووضع اليد على مؤسسات الدولة ومرافقها، وتقاسم السلطة وضرب مبدأ الفصل بين السلطات، وبالتالي، مبدأ المساءلة والمحاسبة، والإصرار على تشكيل حكومات تجمع بين الأكثرية والأقلية تقضي على دور مجلس النواب التشريعي والرقابي، بما أساء إلى مفهوم الديموقراطية، من جهة، وأسقط مقومات النظام البرلماني والمبادئ التي يقوم عليها، من جهة ثانية.

ومما هو متفق عليه، أن كل دستور جديد، يمر بمرحلة تجربة يتم خلالها الحكم على مدى صلاحية هذا الدستور وآثاره على النظام السياسي، أو الثغرات التي تتضمنها الاصلاحات السياسية التي اعتمدت فيه، وهذا أمر طبيعي، ولكن مشكلتنا في تطبيق الاصلاحات التي نتجت عن الطائف. أن تطبيقها كان مجتزاً وما طبق منه لم يكن سليماً، ولم تتوفر في تطبيقه، الارادة الطيبة، إرادة الاصلاح، ولا حسن النية، ولا الرغبة في بناء دولة قانون ومؤسسات، فساد مبدأ التعطيل والعرقلة في التعاطي السياسي والتقاتل على المصالح والمغانم وعقلية الهيمنة ومنطق الغلبة واحتكار السلطة، واللجوء إلى الخارج والاستقواء به في حل مشاكل وأزمات الداخل، واستغلالالدين في السياسة، فكيف نلجأ إلى طائف جديد، والطائف هو على الحال الذي وصفناه وتجربته لم تكتمل، وكيف نعرض البلاد إلى تجربة جديدة لا تعرف نتائجها، وطريقها محفوف بالمخاطر ولا رؤية لها؟ وهل نغامر بحرب أهلية لا أفق لها ولبنان لم يخرج بعد من آثار الحرب الأهلية الماضية التي دمرت النفوس، أم نسعى إلى استكمال تطبيق دستور الطائف، والبحث في تصحيح الثغرات التي نتجت عن تطبيقه وهو أمر مطلوب ومرغوب، بالحوار البناء، وبالطرق الديموقراطية ووفقاً للأصول الدستورية، وفي مناخ من الثقة والرغبة الحقيقية في  بناء الدولة، دولة الحق والمواطنة.

بذلك، نؤسس للدولة الدستورية، التي تخضع في كل جوانب عملها، التشريعية منها والتنفيذية والقضائية، للدستور، وبحيث يصبح العمل السياسي ليس عملاً يخضع للإستنساب والأهواء، أوتحكمه المصالح والتحالفات والصراعات الفئوية والحزبية والسياسية، بل تغنيه وتهذبه وتنقيه الجوانب والاعتبارات القانونية والدستورية، التي تشكل دائرة أمان ووقاية لهذا العمل، وهذا ما يحصن العمل السياسي ويصونه ويبقيه في دائرة الدستور.

6- هل خيّب الطائف توقعات الشباب اللبناني على وجه التحديد، إذ انتج نظاماً يصعب محاكمته، أو تغييره، ولا مكان للشباب فيه؟
من خيب آمال وتوقعات الشباب اللبناني، هو الطبقة السياسية التي أطاحت باتفاق الطائف وأعاقت تطبيقه وخالفت أحكام الدستور، ولم يكن لها لا رغبة ولا إرادة في بناء دولة.
*إن المشكلة لا تكمن في الطائف،ولكن في من طبق الطائف، وخرج على أحكام الدستور، والمشكلة في ممارسة الحكم وفي من أمعن في مخالفة القوانين ومن حاول الهيمنة على مقدرات البلاد وضرب اقتصادها والثقة بها، وخيب آمال اللبنانيين جميعاً والشباب منهم بصورة خاصة في بناء وطنودولة تلبي طموحاتهم وأمانيهم وتؤمن لهم كرامة الحياة وتطمئنهم إلى مستقبلهم ومصيرهم.

أختم فأقول، لا بديل للمواطن عن الدولة، ولا يمكن لسلطة مهما أوتيت من القوة أو القدرة أن تحل محل الدولة، أو تؤمن الحماية للمواطن، ولا يجوز للطوائف أو للأحزاب أو للقوى السياسية أن تقاسم الدولة سلطتها أو تنازع الدولة على سلطتها، أو تشاركها في السيادة على إقليمها أو على مواطنيها، لأن ذلك لا يضعف  سلطة الدولة فقط ويذهب بهيبتها ويلغي دورها، بل إن ذلك يؤثر على الكيان ويشكل خطراً على وحدة الدولة ويضرب الوفاق الوطني وصيغة العيش المشترك في الصميم.
لم يعد من المقبول أن تستقوي الطوائف أو الأحزاب أو القوى السياسة، على الدولة وأن تتحدى سلطة الدولة، أو أن تصادر الحقوق والحريات، أو أن تستقطع لنفسها الإدارات والمرافق العامة، وأن تتوزع منافعها وخيراتها، وتتبادلها من وقت لآخر، لأن ذلك كله يقوض أركان الدولة، ويهدم مقوماتها وركائزها، ويلغي مفهوم الحرية والديموقراطية، ويجعل الدولة ومؤسساتها حقلاً للتجاذب والمنافع، ويجعل الطوائف في مواجهة بعضها البعض، مما يسيء إلى علاقات الود والتفاهم والتعاون والثقة التي يجب أن تسود في ما بينها، بحيث يصبح اللبنانيون في خدمة طوائفهم لا في خدمة مواطنيهم، وهو ما أدى إلى تعميق الحساسيات الطائفية والمذهبية، وحوّل الساحة اللبنانية إلى ساحة صراع وتنافس داخلي بين هذه الطوائف والمذاهب، تتسرب إليها الصراعات الإقليمية والدولية كما يتسرب المطر من سقوف وجدران البيوت، فتغرق هذه البيوت بالمياه وتفقد صلاحيتها للسكن، كما يقول الرئيس الدكتور سليم الحص.
لم يعد مقبولاً أن نختبئ وراء طوائفنا أو نحتمي بمذاهبنا، بادعاء تمثيلنا لهذه الطوائف والمذاهب، أو الدفاع عن حقوقها، ونحن لا ندافع إلا عن مصالحنا الشخصية ومكاسبنا المادية، ونسعى إلى تأمين بقائنا واستمرارنا في السلطة وإحكام القبضة على مؤسسات الدولة ومرافقها، بحسبنا نملك حق تمثيل الشعب، ونحن قد أفقدنا الناس، بسياساتنا وتصرفاتنا الثقة بالدولة ومؤسساتها.
يريد أهل السياسة وضع أيديهم على كل شيء حتى ايمان الناس، فيدعون تمثيلهم للطوائف والدفاع عن حقوق الطوائف، فيلبسون رداء الطوائف والمذاهب، ليحتموا به، ويعفون انفسهم من المساءلة والمحاسبة، لا تقحموا الدين بالسياسة، دعوا الناس يعيشون إيمانهم، إيمانهم يجمعهم ولا يفرقهم، وسياساتكم الطائفية والمذهبية تمزق جموعهم وتدمر حياتهم.    
يجب أن نعتاد العيش في كنف الدولة، أن نتقبل فكرة الدولة وأن نحترم قوانينها ودستورها، أن نخضع لسلطانها، لأننا خارجها نكون جماعات وطوائف وقبائل متناحرة لا رابط فيما بيننا ولا كيان لنا.
لم تكن المشكلة في الطائف، فسرنا الطائف بحسب أهوائنا، أردنا حكم تراكم صلاحيات، هيمنة وتسلط، لا مسؤولية فيه ولا مسؤول، وأردنا حكومات تحت عناوين وطنية جامعة، حيث لا وطنية، حيث نتهرب من المسؤولية والمحاسبة، لا تغيير فيها ولا إصلاح، مجرد استنساخ وجوه وأشخاص، تبادل مصالح ومنافع، وتوارث مواقع، فقدنا الأصل والجوهر، الحرية والديموقراطية وأخلاقيات الحكم والضمير، نعيش في سراب يظنه الظمآن ماءً، حيث لا ماء ولا هواء نظيف... فساد وظلام.

* نشرت في العدد الاخير لمجلة الضحى.              بيروت في 17/8/2020
 

العدد

Add new comment

Restricted HTML

  • You can align images (data-align="center"), but also videos, blockquotes, and so on.
  • You can caption images (data-caption="Text"), but also videos, blockquotes, and so on.