لم تعد بريئة تفسيرات قانونيين، ولا أقول حقوقيين، حول قضايا تتعلق بأسس الدولة والسيادة والدستور وانتظام الحياة العامة. ليس القانون اساسًا مجرد تقنيات إجرائية، بل سلطة معايير وتراتبية قيّم، وبدون تغليب قيمة ثانوية رديفة على قيمة اعلى تراتبية. هذا ما يتم اختراقه في قضية الحكومات في لبنان وتأليف الحكومات.
صدرفي النهار، 22/12/2020
1. تعمّمت مُصطلحات في الحياة العامة في لبنان حول "الثلث"، "والتعطيل"، في حين ان المادة 65 من الدستور تسعى الى تجنب طغيان اقلية وطغيان أكثرية من خلال أكثرية موصوفة في 14 قضية مُحددة تفصيلاً. لا وجود "لثلث" ولا "تعطيل"في أي منظومة حقوقية لان هدف القانون تسيير الأمور، حتى في قوانين الشركات التجارية.
2. ورد في المادة 53-4 في الدستور اللبناني: "يصدر (رئيس الجمهورية) بالاتفاق مع رئيس مجلس الوزراء مرسوم تشكيل الحكومة...". وورد في المادة 64-2 بشأن رئيس مجلس الوزراء: "يجري الاستشارات النيابية لتشكيل الحكومة ويوقّع مع رئيس الجمهورية مرسوم تشكيلها. وعلى الحكومة ان تتقدم من مجلس النواب ببيانها الوزاري لنيل الثقة..." وورد ايضًا في البند 3: "يطرح سياسة الحكومة العامة امام مجلس النواب".
3. ان عبارة "بالاتفاق" في المادة 53/4 لا تعني بالضرورة موافقة. وعبارة "توقيع" في المادة 64 لا تعني بالضرورة موافقة شاملة لكل مضمون وكل تفاصيل التشكيلة الوزارية. الاتفاق الشامل مُستحيل في أرقى الديمقراطيات. قد يكون الخلاف حول تفاصيل التشكيلة الوزارية دليل صحة مؤسساتية، بينما الموافقة الشاملة قد تكون نتيجة هيمنة او تبادل نفوذ ومنافع.
4. ورد في المادة 49: "رئيس الجمهورية هو رئيس الدولة"، في حين تم الاكتفاء بتوصيف السلطة الثالثة "برئيس الحكومة" (المادة 54) "ورئيس مجلس الوزراء هو رئيس الحكومة" (المادة 64).وتم توصيف السلطة الثالثة "برئيس مجلس النواب". رئيس الدولة يعلو على "الصلاحيات"، في سبيل ممارسة دور دستوري ناظم للحياة العامة.
انه مسار مُخجل ومهين انتاج دستوريين وسجال مُثقفين بدون خبرة حول "صلاحيات" رئيس الجمهورية الذي وُصف في الدستور اللبناني بأنه "رئيس الدولة"! هو الذي يحلف اليمين الدستورية وهو يعلو على كل علاقات السلطة والنفوذ والمواقع، في سبيل سمو "الكتاب"، أي الدستور. تحجّج "رئيس الدولة" بصلاحيات، إهانة لدوره وللدولة وللدستور! هل يسأل مدير مؤسسة أو مدير مدرسة ما هي صلاحياته، بمعنى الموقع والسلطة وعلاقات النفوذ، أم يسهر على انتظام المؤسسة واستمراريتها وليس تعطيلها؟
تم خلال الاحتلالات، المباشرة أو بالوكالة، وبخاصة خلال السنوات الأخيرة، تشويه المصطلحات الحقوقية. ليس الخلاف بالضرورة نزاعًا. والاجماع قد يكون هيمنة وديكاتورية. وعلى العكس الاتفاق على عدم الاتفاق هو المستوى الارقى في الممارسة الديمقراطية، وحتى في العلاقات الإنسانية، ويتم الحسم من خلال المؤسسات.
5. ما معنى "يوقّع" في كل ما يتعلق بالرئيس التسلسلي في اية مؤسسة؟ هل تعني "يوقع" الموافقة على كل ما تتضمنه الوثيقة ومجمل بنودها، وحتى كل تفاصيل صياغاتها؟ ام يوّقع الرئيس التسلسلي على صحة الإجراءات انسجامًا مع الهدف العام للمؤسسة وللمشروع؟ اذا كان "التوقيع"، في علم إدارة الاعمال، يعني شمولية الموافقة على كل التفاصيل، فهذا تعجيز وتعطيل في مسار الإدارة، وخرق لمفهوم المسؤولية، وخرق لقواعد توصيف المهام والتسلسل الوظيفي الذي يتحول الى هيمنة الرئيس الأعلى.
ورد في ما يتعلق بالتشكيلات القضائية: وهل انا علبة بريد؟ يعبّر هذا القول عن مدى تدهور مضامين بديهية حول المسؤولية. تراقب الرئاسة التسلسلية الانتظام العام والمعايير. لا يتدخل مدير مؤسسة في اعمال كل قطاع، بل يُشرف على الانتظام العام انسجامًا مع اهداف المؤسسة. يتحوّل كل سياق خارج حسن ممارسة التسلسل الوظيفي من ضمانة للنظام العام الى هيمنة رئاسية تدمّر المؤسسة لصالح هيمنة رئاسية او تبادل منافع وعلاقات سلطة ونفوذ. اصبح اليوم معنى "الصلاحيات" في لبنان تبادل نفوذ والا التعطيل!
6. موقع رئيس الجمهورية هو موقع "رئيس دولة"، يشغله ماروني، ولكنه ليس موقعًا مارونيًا، وكذلك بالنسبة الى طائفة رئيس مجلس الوزراء... لا حصانة مذهبية لاي موقع، كما كتبته نايله تويني (النهار، 14/12/2020). خرق الدستور هو خرق للدستور لا تغطيّه تبريرات مذهبية.
7. رئيس الحكومة هو المسؤول عن سياسة الحكومة (المادة 64). ويراقب المجلس النيابي الحكومة ورئيسها بشأن تنفيذ سياسة الحكومة. اما المسؤولية العليا "لرئيس الدولة" فهي الانتظام الدستوري، وليس التعطيل والاستمرار في التعطيل بعد خبرة سابقة مع رئيس الحكومة المكلف مصطفى اديب.
8. مفهوم الثقة confiance وتلك التي يمنحها المجلس النيابي، واستنادًا الى الادبيات الحقوقية والفلسفية والأخلاقية، يعلو في تراتبيته على مفاهيم التشاور والاتفاق والتوقيع. انه لمؤشر مؤلم تراجع مفهوم الثقة التي هي معدومة في لبنان اليوم. الثقة هي أساس الشرعية، أي قبول الناس بسلطة الحاكم وليس اذعانهم.
9. في حال الخلاف، الذي هو ظاهرة ديمقراطية، وهو ليس بالضرورة نزاعًا، ولا يجوز ان يكون سببًا او حجّةللتعطيل، يتم اللجوء الى المؤسسات الدستورية في سبيل الحسم. مجلس النواب هو المؤسسة الام matricielle للشرعية الدستورية. هو الذي يمنح الثقة او يحجبها عن الحكومة. هل تحولت الثقة بالحكومة في لبنان الى درجتين: درجة أولى لدى رئيس جمهورية، ودرجة ثانية– او بالأحرى ثانوية! - لدى المجلس النيابي؟ ان المجلس النيابي هو الدرجة الاساسية التي تحسم. حتى في اغلب أنظمة الدرجتين فالدرجة الأولى لا تُعطل الدرجة الثانية والتي هي، في ما يتعلق بثقة المجلس النيابي، الدرجة الأساس.
_____________________
* عضو المجلس الدستوري سابقًا، 2009-2019.
رئيس كرسي اليونسكو لدراسة الأديان المقارنة والوساطة والحوار، جامعة القديس يوسف.