قلتُ لمحدِّثي، غير المتَّفِق معي رأياً وتقديراً وموقفاً حول صحَّتنا الوطنية: الآن وهنا، بعد انقضاء نحو ثلاثة عقود على إبرام وثيقة الوفاق الوطني التي أنهت الحرب، تبدو الحياة السياسية اللبنانية، كما الوطنية، وكأنهما لم تغادرا الانقسام الحادّ الذي واكب إبرام تلك الوثيقة المعروفة بـ"اتفاق الطائف"، ما بين راضٍ موافق ومعترضٍ معاند!
قال: أراكَ مبالغاً في وصفكَ انقسامنا بالحدّيَّة والاستدامة، من البداية حتى الآن. فحالُنا اليوم، وعلى مدى الوصاية السورية سحابةَ خمس عشرة سنة، خاليةٌ من صدامات عنفيَّة حول الاتّفاق المشار إيه، على غرار ما حصل بدايةً في حَرْبَي "التحرير والإلغاء"، كما أنَّ حالنا إيَّاها قد رستْ تدريجياً على قبولٍ عام بالاتّفاق بعدما أضحى الرافضون القُدامى في مقاعد السلطة، من النيابة فالوزارة فالرئاسة، فضلاً عن "تحكُّم بعضهم بقراري الحرب والسلم، واحتفاظه بدويلته المستقلَّة عن دولة الطائف"، كما تزعمون.
قلت: قد أقرَّيتَ إذاً بأنهم يوافقون على اتفاقٍ وترتيب يمكّنانهم من السلطة والقرار، وإلا فلا...! وتابعتُ: رغم ذلك، أي رغم تمكُّنهم، فما رأيكَ في تلك التَّحفظات المعلنَة حول جوهر الاتفاق، من مثل المطالبة بمثالثةٍ سنّية- شيعية- مسيحية بدلاً من المناصفة المسيحية- الإسلامية، أو من مثل القول بأنَّ موازين القوى قد تغيَّرت بعد الطائف عمَّا كانت عليه عشية الاتّفاق، جرَّاءَ فائض القوَّة الذي أحرزه حزب الله أثناء الوصاية السورية وبعدها، وكذلك فائض التمكُّن والانتشار الذي حقَّقه التيار العوني مسيحياً بفضل تحالفه مع سلاح المقاومة اعتباراً من العام 2006، بحيث "بات ثوبُ الطائف ضيّقاً جداً على الكتفين العريضتين لهذا الفريق"، بحسب تصريحات بعض مؤيّديه، ومن بينهم نوّابٌ في البرلمان. وقد أدَّى هذا الإحساس بفائض القوَّة الطائفي، خصوصاً بعد الانتخابات النيابية الأخيرة وما سبقها من تسوية رئاسية، إلى العمل بشعار "استرداد صلاحيات رئيس الجمهورية التي اغتصبها اتّفاق الطائف"، ودائماً وفق أطروحة "تحالف الأقليات الدينية في المنطقة بوجه الأكثرية العربية السنيّة"؟!.. ألا ترى أنَّ تلك التحفُّظات المعلنَة، فضلاً عن العمل بموجبها، تُعَدُّ رفضاً متجدِّداً لاتّفاق الطائف، وعَوْداً على بدء الانقسام الحادّ الذي واكب الاتفاق؟!
قال: أنتَ أردتَ أن تسمّي ذلك انقلاباً، أو محاولةً انقلابية، ولكنّه في نظرنا إنما يرمي إلى "إصلاح ما أعوجَّ من الاتّفاق أصلاً وخِلقة".. وهذا ما يُتيحه ميزان القوى الحالي في لبنان والمنطقة.. وعليكَ أن تعترف بأنَّ كرامة الأقليات الدينية في منطقتنا (ومن بينها "الأقليتان المسيحية والشيعية"، كما صرَّح مؤخراً الوزير جبران باسيل) متوقّفةٌ عملياً على وجودها القويّ في السلطة.
قلت: ألا تعتقد معي بأن صيغة عيشنا اللبناني تقوم على قوَّة التوازن وليس على موازين القوى المتغيّرة؟
قال: هذا في "الإنشاء العربي" وخطاب المجاملات.. أما في واقع الأمر، هنا وثمَّة، فالموازين هي الحاكمة!
قلت: خطَّتُكم والجولات الميدانية لاسترداد السلطة تذكّرنا بـ"حروب الاسترداد Reconquista" التي خاضها الغرب المسيحي إبَّانَ القرون الوسطى لإخراج المسلمين العرب من الأندلس، معوِّلاً في ذلك على تفرُّقهم، وعلى تماسكه بعد فُرقة.. فماذا تفعلون بخطّتكم إذا ما اتَّفق مسلمو لبنان في ظروفٍ مختلفة محلياً وإقليمياً، فيما ترون ولا شك أن المنطقة تنام على شيء وتصحو على شيء آخر؟
قال: أعتقد ان مسلمي لبنان، مثل مسلمي الأندلس، لن يتَّفقوا.. وإذا ما حصل ذلك بأعجوبة، فأعتقد أنَّ لدى قيادتنا الذكيَّة: "الحربوقة" الخطّة "ب"!
لم أسأله عن هذه الخطَّة "ب" لئلاَّ أُحرجه.. ولكنّي تذكَّرتُ حديثاً جرى بيني وبين صديقي النبيل سمير حميد فرنجية- رحمه الله- حول لقائه الأول مع أمين عام حزب الله، غداةَ انتصار قوى 14 آذار 2005، وكانت مهمة صديقي الأساسية في ذلك اللقاء "طمأنة الحزب إلى أنَّ انتفاضة الاستقلال حريصةٌ على مشاركة الجميع في إعادة تكوين السلطة، بعد انكفاء الوصاية السورية". سألته آنذاك عن انطباعه الرئيس على أثر ذلك اللقاء، فقال: "أكثر ما شدَّ انتباهي دماثةُ هذا الرجل.. ولكنَّ عقله يشتغل على موازين القوى والتفاصيل أكثر من أيّ شيء آخر!".
ثم إني لفتُّ محدِّثي إلى كلام للمؤرخ كمال الصليبي يقول فيه: "إذا كان الفريق المسيحي المعترض على الطائف يتمتَّع بالقدر المعقول من الإدراك والفهم، فعليه أن يهلّل للطائف، لأنه أفضلُ ما يمكن أن يُعطى لمسيحيّي لبنان ومسيحيّي الشرق، ولأنه أفضل تطبيق للعروبة كفكرة علمانية" (ملحق النهار، 18 تموز 1992).
قال: ولكننا نريد "طائفاً" لبنانياً، لا سعودياً ولا سورياً ولا أميركياً!
قلت: تعالَ نقرأ معاً جواب المؤرخ الصليبي على اعتراضك هذا، حيث يقول: "قد يُقال إن الطائف ثمَّ برعاية عربية وبوحي من أميركا وأوروبا، وإن صِلات بعض الدول العربية ببعض الأطراف اللبنانية سهَّلت التقاء اللبنانيين حول الطائف. ولكنْ مهما كان الأمر، فإن فكرة الطائف والطريقة التي تمَّ بها كانت لبنانية. إنها صيغةٌ شبيهةٌ بالصيغة التي ولدت عام 1943. في ذلك الوقت تفاخر أناسٌ من أمثال مصطفى النحّاس (رئيس الحكومة المصرية) بأنهم صنعوها، إلاّ أن الفكرة لبنانية. هي فكرةُ أناسٍ من أمثال كاظم وتقي الدين الصُّلح وزعماء الكتلة الدستورية.. وما حدث آنذاك أنها نالت إعجاب العرب وأميركا وبريطانيا.. وفي اعتقادي أنّ الفرنسيين أيضاً قد أُعجبوا بها سراً منذ البداية".
قال: ما لكَ تُعيدني إلى صيغة 1943 التي أسقطتها الحرب، ثم جاء الطائف ليعيد إحياءَها "مقلوبة"، أي بهيمنةٍ إسلامية على السلطة.. ومن حقّ المسيحيين تصحيح هذا الخطأ!
قلت: الجميع يعلم أنَّ الطائف لم ينقل السلطة من يد المسيحيين إلى المسلمين، بل إنَّ التطبيق الكيفي والاعتباطي والتحريفي لاتفاق الطائف، على يد الوصاية السورية، هو الذي نقل السلطة من اللبنانيين جميعاً، مسيحيين ومسلمين، وجعلها في يد الوصيّ السوري.. وهذا مما أضرَّ بالمسلمين قبل المسيحيين، لأنه وضعهم بالشكل في موقع المسؤولية عن سلطةٍ لا يستطيعون ممارستها.. والشواهد على ذلك أكثر من أن تُعدَّ وتُحصى.. ولعلَّ أبرزها "اعتكافات" الرئيس رفيق الحريري المتكرّرة أثناء الوصاية السورية.
قال: أنتَ تعترف إذاً بأنَّ الطائف ثبَّت الوصاية السورية، فيما كنَّا- نحن العونيين- على الدوام ضدَّ هذه الوصاية!.. والدليل على ذلك تجده في قول المغفور له الرئيس الحريري بأنَّ "الوجود السوري في لبنان شرعي وضروري ومؤقت"!.
قلت: هذا لا يعني مطلقاً الموافقة على الهيمنة السورية، على نحو ما زعم البعض أنَّ "الوصاية هي في صُلب اتّفاق الطائف، إنْ زالت يزول!"، أو القول بأنَّ "المقاومة الإسلامية المسلَّحة، والمستقلَّة عن الدولة، هي في صُلب الاتّفاق!".. وعلى أي حال، فإنَّ الرحل لم يُقتل إلاّ بسبب رفضه الهيمنة، وفي لحظةٍ كان قد أمسى من أبرز أركان المعارضة الاستقلالية مع البطريرك صفير والوزير جنبلاط!.. ولكنْ لماذا تخلط دائماً بين "وثيقة الوفاق الوطني" التي هي مدار نقاشنا، والتي تسجّلون عليها تحفُّظاتٍ في الجوهر إلى حدّ النَّقص، وبين واقعة "الوصاية"؟!
قال: وما الذي ثبَّت الوصاية غير ذلك الاتّفاق؟
قلت: المداخلات الدولية والإقليمية التي سهَّلت الاتفاق، او "فرضته" إذا شئت، ولكنها لم تكتب حرفاً واحداً في الوثيقة!
قال: وكيف كان ذلك، يا طويل العمر؟
قلت: أطال اللهُ عمرك يا أخي، ونشَّط ذاكرتك!.. لقد فرضت الإرادة الدولية والإقليمية آنذاك وقف الحرب اللبنانية، بعدما استنفدت تلك الحرب أغراضها وإمكاناتها، بالتزامن مع نهاية الحرب الباردة وسقوط جدار برلين- لاحظْ تطابق التاريخين عام 1989- وبعد انسحاب قوات منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان عام 1982، ومع عجز أي فريق لبناني داخلي عن تحقيق انتصار حاسم. هذا بالإضافة إلى إرهاصات حرب الخليج الثانية 1990 التي رمت إلى "تأديب" صدَّام حسين بعد الانتفاخ الذي أصابه جرَّاءَ انتصاره في حرب الخليج الأولى 1980- 1988، والتي اقتضت "استمالة" النظام السوري إلى جانب التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة، فأسهم ذلك كلُّه في مكافأة النظام السوري بالوصاية على لبنان بعد الطائف.. أما جوهر الاتّفاق، أو فكرة الطائف، فهي نتاج عقلٍ لبناني خالص، تمثَّل في بقيَّةٍ باقية من برلمان 1972 (62 نائباً فقط من أصل 99)، بالتعاون مع شخصيات ومقامات جزيلة الاحترام.. وغايةُ القول، مع كمال الصليبي مرةً أخرى، "أنَّ ما حدث في الطائف، [وليس في مقايضات الوصاية]، إنما حدث بالفعل لخير المسيحيين. ذلك أنهم حين طرحوا مشروع "لبنان الكبير" ابتكروا شيئاً أكبر منهم، ويتطلَّب منهم أن يخضعوا لحقيقته، مثلما يتطلَّب من الآخرين أن يخضعوا له أيضاً، لأنَّ السيطرة من جانب واحد على هذا الشيء تجعله غير قابلٍ للعمل. لذلك وُجدت صيغة 1943 القائلة بمبدأ المشاركة. بيدَ أنّ صيغة 1943 لم تكن قابلة لأن تعمل كما يجب، بسبب سيطرة فريق عليها. ما فعله الطائف هو أنه أعاد التأكيد على المشاركة [وبصورةٍ أكثر توازناً بالنصّ الدستوري].. واعتقد أنها تأتي في مصلحة الفريق المسيحي، فهي بالأساس فكرتُه، ومقبولةٌ من الجميع، باستثناء مَرْضى التطرُّف!...".
قال: أظنّ أن أساس المشكلة لم يكن في مشاركةٍ أو عدم مشاركة، ولا في اعتدال أو تطرف، بل يبدو أن الخطأ الأصليّ كان في "تكبير لبنان".
قلت: بل في عدم الخضوع لحقيقة هذا الابتكار الفذّ في المنطقة! وهو بالفعل ابتكارٌ فذّ بحسب ما جاء في خطاب البطريرك الياس الحويّك أمام رئيس مؤتمر الصلح في باريس عام 1919: "ألفتُ عنايتكم الكريمة إلى أنه، وللمرة الأولى في تاريخ الشرق، هناك مَنْ يطالب بكيان وطني لمجتمع تعدّدي، على قاعدة الوطنية السياسية لا الوطنية الدينية" (من الوثائق السياسية في خزانة البطريرك الحويك الخاصة، نُشرت عام 2013).. أما في مسألة المشاركة فأرجو أن تتأمَّل جيداً في هذا الكلام الاستثنائي الصادر عن المجمع البطريركي الماروني 2006: ".. وبرزت قبل الحرب مسألةٌ شكَّلت انقساماً في لبنان، وتمحورت حول إصلاح النظام السياسي، فكانت الأزمة الحكومية عام 1969، ثم أزمة عام 1973 التي اختلطت فيها مسألة المشاركة في السلطة بمشكلة الوجود الفلسطيني المسلَّح. صحيح أن صلاحيات رئيس الجمهورية الدستورية كانت واسعة، ولكنَّ الصحيح أيضاً أنها، في مجال الممارسة، لم تكن كذلك، لأنها مقيَّدة بتوقيع رئيس الحكومة والوزير المختصّ. وبالتالي فإنه كان من الأنسب للقيادات المارونية تكريس هذا الواقع في نصوص دستورية، تأكيداً لمبدأ مشاركة المسلمين المتوازنة في السلطة.. وهذا ما فعلوه في اتفاق الطائف، إنما بتأخير خمس عشرة سنة!" (النصّ التاسع عشر، ص. 711-712).
قال: لقد زالت الوصاية السورية عام 2005، واستلمتم السلطة، فهل استقام اتّفاق الطائف معكم؟
قت: لم يستقم، لأن النظام السوري، وقبل أن يغادر، سلَّم الأمر للوصاية الإيرانية.. ولا يستقيم وفاقٌ وطني في لبنان من دون سيادة واستقلال. زدْ على ذلك أن الوصاية السابقة اشتغلت في ظروف ما بعد الحرب، ونالت رضا المجتمعين العربي والدولي باعتبارها "من ضمانات الاستقرار في المنطقة، إلى أن يحين موعد إنهاء النّزاع العربي- الإسرائيلي"، بحسب عبارة الرئيس الفرنسي جاك شيراك من على منبر المجلس النيابي اللبناني عام 2002. أما الوصاية الحالية فإنها تعمل في ظروف "حرب عالمية" تجري في المنطقة وعليها، كما أنها (هذه الوصاية) تستتبع الوصيَّ السابق، وتدخلُ في مواجهات حادَّة مع الدول العربية ومعظم دول العالم... فتأمَّلْ!
قال: وماذا فعلتم للسيادة والوفاق، باعتبارهما متلازمين بنظركم؟
قلت: بعد الانسحاب السوري جرت الانتخابات النيابية، كما تأليف الحكومة الأولى، على قاعدة مشاركة الجميع في إعادة تكوين السلطة. ثم إنَّ تلك الحكومة،وبشخص رئيسها، هي التي وضعت "النقاط السبع" التي على أساسها تمَّت صياغة القرار الدولي 1701 المتعلّق بسيادة لبنان، بعد حرب تموز 2006. جدير بالذكر أنّ مقدمة هذا القرار نصَّت على أن مرجعيَّته الأساسية هي اتّفاق الطائف، فضلاً بطبيعة الحال عن القانون الدولي. يومذاك صرَّح رئيس المجلس النيابي بأن ما فعلته الحكومة هو "المقاومة السياسية والدبلوماسية بعينها!". بعد قليل شاركتم حزب الله في احتلال وسط العاصمة ومحاصرة السراي الحكومي، على قاعدة ورقة التفاهم الشهيرة في كنيسة مار مخايل- الشياح، ووصمتم رئيس الحكومة وفريقه "بالخيانة والعمالة لأميركا وإسرائيل".. وكان ما كان مما أنت وأنا نذكره جيداً.. فتأمَّلْ مرةً ثانية! ثم إنكم عطَّلتم المجلس النيابي واستحقاق الانتخابات الرئاسية نحو سنة ونصف، إلى أن أفرج عنهما "اتفاق الدوحة"، بعد "يومكم المجيد" في 7 أيار 2008.. ولم يحصل ذلك إلاّ بعد حصولكم على "الثلث المعطّل" في الحكومة اللاحقة.. فتأمَّلْ يا صديقي مرةً ثالثة!
قال: ها أنت ذا أصبحتَ مهتماً بالشواهد والتفاصيل، أكثر من اهتمامك بالكليّات التي بدأتَ بها حديثك!.. وما تلك التفاصيل التي ذكرت بعد 2005 إلاّ تعبيرٌ عن صراعٍ سياسي مشروع حول إدارة الدولة، تحسمه صناديقُ الاقتراع، كما هي الحال في أي بلد، ولاسيما في انتخاباتنا النيابية الأخيرة!
قلت: حيَّا اللهُ صناديقك هذه التي فُصِّلت على قانونٍ "أرثودوكسيّ" مخالفٍ لمقتضيات العيش المشترك والدستور! وما أردتُ قوله من شواهدي والتفاصيل هو أنّ الخلاف القائم إنما يدور حول "طبيعة الدولة" قبل إدارتها، تلك الطبيعة المنصوص عليها في ميثاق ودستور.. أمام الصراعات الإدارية، من توظيفات وتعيينات ومحاصصات، التي تطغى على المشهد السياسي العام، لاسيما في السنوات الثلاث الأخيرة، فما هي إلاّ تغطيةٌ لجوهر الخلاف حول طبيعة الدولة، خصوصاً مع تسليمكم بأن هذه المسألة باتت في عهدة الخارج والصراع الإقليمي، ولم تعد قضيةً مرتبطةً بإرادة اللبنانيين وعقدهم الوطني.. وما أردتُ قوله أيضاً وخصوصاً هو أن الخلاف حول الطائف إنما هو خلافٌ بين موقفين: موقفٌ اعتبره ومازال يعتبره "اتّفاق الضرورة"، وموقفٌ اعتبره منذ البداية ومازال يعتبره "اتّفاق الاختيار".
قال: وما الفارق بين الضرورة والاختيار؟
قلت: الفارقُ نوعّي وكبير. أما الموقف الأول فيرى أن الاتّفاق كان مما فرضته ظروفٌ وموازين قوى، يمكن أو ينبغي نقضه أو تعديله مع تغيُّر الظروف والموازين. وأما الموقف الثاني فيرى أنه اتّفاق المصلحة اللبنانية والقناعة اللتين ينبغي التمسك بهما والدفاع عنهما في مختلف الظروف.. وكما أعطيتك شاهداً على هذه المسألة من نصوص المجتمع البطريركي الماروني، أعطيك شاهداً آخر من نصّ شيعي مرجعيّ. يقول رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى، الشيخ محمد مهدي شمس الدين، في وصاياه الأخيرة والمسجَّلة عام 2000 قبيل وفاته: "حين أُبرم اتّفاق الطائف، وكان الموقف الشيعي العام سلبياً منه في غالبيته العظمى، قلنا آنذاك إنه اتّفاق الضرورة. أنا قلت إنه اتّفاق الضرورة. أما الآن فأنا أقول: إنه اتّفاق الاختيار، وهو اتّفاقٌ مناسبٌ لطبيعة الاجتماع اللبناني، ولكل اجتماع في المنطقة العربية ينطوي على درجة معتبرة من التعدّدية" (الوصايا، منشورات دار النهار 2002).. ومعلومٌ انَّ الشيخ شمس الدين اقترح آنذاك "طائفاً عراقياً" لحلّ المسألة العراقية.
قال: يبدو أنكم تعتبرون الطائف قرآناً أو إنجيلاً لا يُمسّ، بينما هو- كأيّ اتفاق- قابلٌ للتعديل، أو حتى الإلغاء، في ضوء التجربة.. وقد جرَّبناه وفشل!.
قلت: في قناعتي وقناعة أهل الطائف، لاسيما أولئك الذين بذلوا كل الجهد المشكور لبلورته نصاً وروحاً، لم يطبَّق في أي وقت وفقاً لمقاصد المشترع.. وهذا هو رأي البطريرك المثلَّث الرحمات، نصر الله صفير، الذي ظلَّ يردّد حتى وفاته: "ليس المطلوب إلغاء الطائف ولا تعديله، بل تطبيقه نصاً وروحاً!".
قال: إذا سلَّمتُ معك جَدَلاً بأن خلافنا حول الطائف جوهريٌّ ومستمرّ، ألا تسلّم معي بأن كل الأطراف، بمن فيها "جماعة الطائف"، منشغلةٌ بحصصها و"حقوقها" وحيثيَّاتها، أي بالصراع على إدارة الدولة، وبالتالي "كلُّنا في الهوا سوا.. ولا فضلَ لموسى على ربّه"؟
قلت: أوافقكَ على هذا التعميم في ضوء اللعبة القائمة، لاسيما بعد الانتخابات النيابية الأخيرة التي انحدرت بالعيش المشترك إلى مستوى المساكنة، لا بل أعادت الاجتماع اللبناني إلى مكوّناته الأساسية على نصابٍ من التَّدافُع! فالواقع أننا لم نعد نسمع، في الخطاب السياسي والخطاب المقابل، سوى عبارات من نوع "أنا.. وحصّتي.. وحيثيَّتي.. وحقوقي"، ثم يُلصق المتكلّم "أناه" الشريفةَ هذه بطائفته أو مذهبه أو حزبه وأهل بيته، ولا يشير إلى "حق الدولة" إلا عَرَضاً.. هذا إذا أشار!.. إنها لعبة قديمة ومعروفة déjà vu، ولكنها اليوم في أعتى صورها وتجلّياتها، حيث يخوض الزعيم الطائفي معركتين: معركة أولى داخل طائفته لفرض زعامته المطلقة، ومعركة ثانية مع الطوائف الأخرى لتعيين حصته في الدولة!.. وبما أن دولتنا مازالت "معلَّقة" منذ مدة طويلة، يمكن القول أنَّ زعماءَنا الأشاوس مازالوا في خضمّ معركتهم الأولى على وجه الإجمال!
قال: ألا تعتقد أنّ للطائف نصيباً من المسؤولية عن هذه الحالة؟
قلت: لا تقع المسؤولية على الطائف كوثيقةٍ ودستور، وإنما على "إدارة الطائف"، وبالمعنى الذي أشار إليه كمال الصليبي في حديثه السابق: "المشكلة أن تجربة الطائف وما سبقها تُبقي الأمور معلَّقةً على أخلاقية السياسي اللبناني.. ولا أجدني متفائلاً بهذا الشأن. فالغرضُ السياسي في لبنان عرضٌ أعمى، وما من أخلاقٍ تلجم العمى السياسي.. ونحن نحتاج لما يضبط الوضع، لما يحدُّ من غلواء الطامحين طائفياً!".
قال: كيف؟
قلت: بأن لا يبقى الطائف يتيماً، بعدما افترقت رافعتُه الميثاقية ولم تعد بيتاً واحداً بمنازل كثيرة، فتُرك لمشادّاتٍ وتأويلاتٍ على إيقاع الشهوات السياسية. هذا فيما انكفأت قيادات الرأي والحكماء في مختلف الطوائف، وعلى نحو غير مسبوق. ليس الطائف امتيازاً لفئة، يحتاجُ إلى "حَصْر إرث"، بل هو "وقفٌ" لكل اللبنانيين، أفراداً وجماعات وقوى حيَّة.. نحتاج الآن وهنا إلى دينامية ميثاقية، فوق السياسة بمعناها التوسُّلي والتَّوصُّلي...
قال محدّثي: يبدو أنك أعدت فتح النقاش على مصراعيه!.. فلنفترق الآن على اختلافٍ في الرأي لا يُفسد في الودّ قضية!
قلت: لكَ ما شئت.. وللحديث صلة!